أناقش تارةً النتائج الإيجابية التي حصدناها من الاستثمار في أحد المشاريع، وأتحدث تارةً أخرى عن الفرص الاستثمارية التي قررنا استبعادها. على سبيل المثال، تحدثت في منشوري الأول عن استبعادنا فكرة الاستثمار في قطاع أعمال "الاستئجار الآن والدفع لاحقًا"، ووضحت في منشوري السابق الأسباب التي قادتنا إلى الاستثمار في شركة "كالو".
أما في هذا المنشور، سأناقش الأسباب التي دفعتنا إلى التخلي عن الاستثمار (عمومًا…) في أسواق "التعاملات بين الشركات" وغيرها من الأسواق التي تنطوي على هامشٍ ربحيٍ منخفضٍ إلى حدٍ ما، إلّا أنّ سياق الكلام قادني إلى التحدث عن الهوامش بنطاقها الأوسع، لا سيما هوامش المنتجات وعلاقتها بتوليد الإيرادات وتعزيز الطلب، والمفاضلة بين الأمرين، بالإضافة إلى منظورنا حولها بشكلٍ عام وعلى مستوى "التعاملات بين الشركات" على وجه التحديد.
بالعودة إلى الفترة ما بين عامي 2018 و2022، نجد أنّ نوعًا جديدًا من الأعمال قد بات معتمدًا في الأسواق الناشئة، لا سيما تلك التي تركز على التعاملات بين الشركات، وسأورد في هذا المقال بعض الأفكار والتأملات بشأن فئة الأعمال المشار إليها.
نموذج الأعمال
المشكلة:
غياب التنظيم عن متاجر السوبر ماركت ومواد البقالة والمواد الغذائية في أسواق البيع بالتجزئة ومعاناة هذا النوع من المتاجر من التفكك، وهو ما يتجلى في الجوانب الآتية:
- الطلب بالغ التجزئة: ثمة عددٌ كبيرٌ من متاجر الأزقة ومتاجر "السوبر ماركت" الصغيرة التي تعود ملكيتها لأشخاصٍ مختلفين، كما أن هذا النوع من المتاجر غير مرتبط رقميًا بمورديه لا سيما منتجي السلع الاستهلاكية سريعة التداول (مثل، بي آند جي، ويونيليفر، وغيرها).
- مشكلات في المخزون: غياب الوضوح في إدارة الطلب/المخزون وتعقيدات سلسلة التوريد فيما يخص إدارة دفاتر الطلبات، وطلب كميات كبيرة من السلع الاستهلاكية سريعة التداول، جميعها مشكلات تبرز عند التعامل مع باعة صغار غير متصلين رقميًا بالموردين/ ليس لديهم خبرة بالتعاملات الإلكترونية ويديرون سلاسل التوريد خاصتهم بالورقة والقلم أو على برنامج إكسل، فلا يكون لديهم معلوماتٍ دقيقة واضحة بشأن مورديهم أو حجم المخزون لديهم.
- الجوانب اللوجيستية المعقدة: تسبب الجوانب اللوجستية /إتمام التعاملات/تسليم الطلبات مزيدًا من التعقيد نظرًا للضبابية المحيطة بالطلبات، لا سيما بالنسبة للمورّدين الذين يتحتم عليهم إنشاء شبكة توزيع واسعة تصل لهؤلاء الباعة. ويزداد الأمر سوءًا عندما تكون البضائع المورّدة منتجاتٍ طازجة تتطلب مساحات تخزين مبرّدة مع ضرورة التسليم في الوقت المناسب لتجنب فسادها.
- المشكلات المتعلقة بالأسعار والتوافر: في بعض الأحيان، يقود انعدام الكفاءة في الأسواق إلى الشح في البضائع أو التلاعب بالأسعار.
هيكل السوق:
• تظل متاجر الأزقة من أهم المساهمين في الأسواق الناشئة في كثيرٍ من المناطق.
• تسهم هذه المتاجر بما نسبته 90% من إجمالي مبيعات مواد البقالة في كل من مصر والهند.
• تعد متاجر الأزقة مصدرًا لـ 70% من السلع الاستهلاكية سريعة التداول في أفريقيا.
الحل:
إنشاء منصات أو أسواق رقمية تربط الباعة بالمورّدين المركزيين.
من خلال المنصات الرقمية، يمكن للباعة التواصل مع الموردين لطلب المخزون أو إدارته، مما يتيح لهم تشكيل صورةٍ أوضح عما يلزمهم من مخزون. وفي الوقت ذاته، يصبح الموردين على اتصالٍ مباشرٍ وفوري بالباعة على اختلاف أمكانهم.
وفي معظم الحالات، تتولّى المنصة أو السوق الرقمية إتمام التعامل ما بين المورد والبائع، كما تهتم بالجوانب اللوجستية التي تعد جزءًا من مسؤولياتها. وتجدر الإشارة إلى أنّ مهمة إتمام التعامل كانت في السابق منوطةً بالمورّدين ومنتجي السلع سريعة التداول ومنتجي السلع الاستهلاكية المعبّأة.
النماذج المختلفة:
ليس هناك قالبًا واحدًا لهذا النوع من الأعمال. في الواقع، يتخذ نموذج الأعمال قيد المناقشة أشكالًا عدة، وذلك على النحو التالي:
- التعاملات بين الشركات في مجال السلع سريعة التداول والسلع الاستهلاكية المعبّأة: وهو الشكل الأكثر انتشارًا، ويقوم على ربط صغار الباعة - الذين يعملون في مناطق ريفية ذات كثافة سكانية مرتفعة - بموردي السلع سريعة التداول والسلع الاستهلاكية المعبّأة. وفي العادة، يتم تزويد طرفي السوق (الباعة والموردين) بحل برمجي لإدارة المخزون أو طلبه، وقد يتم كذلك تزويدهم بحلول بخصوص الخدمات اللوجيستية أو خدمات إتمام التعاملات، مما يؤثر على الهامش الربحي، وهيكل التكلفة، ومتطلبات رأس المال، ومعدل استهلاك الاحتياطات النقدية، ومدى التعقيد التشغيلي.
- التعاملات بين الشركات في مجال طلبات الأطعمة والمشروبات: تتشابه مع سابقتها إلى حدٍ كبير، إلّا أنّها تتمحور بشكلٍ أساسي حول المورّدين للمطاعم ومقدمي خدمات الأطعمة والمشروبات، فضلًا عن أنّ حلول الخدمات اللوجستية وخدمات إتمام التعاملات تكون محدودة أو معدومة.
- التعاملات بين الشركات في مجال المنتجات الزراعية: تتشابه مع سابقتها إلى حدٍ كبير، إلا أنّها تتطلب خدماتٍ لوجستية أكثر تعقيدًا نظرًا لسرعة انتهاء صلاحيتها وحاجتها إلى مساحات تخزينٍ مبرّدة، على عكس المنتجات الاستهلاكية سريعة التداول. علاوةً على ما سبق، تعاني جهات التوريد (المزارع) في معظم الأسواق الناشئة كذلك من التفكك والتجزئة، حيث يفضل معظم المورّدين العمل على هيئة مزارع صغيرة.
- أشكال أخرى: يتخذ هذا النوع من الأعمال أيضًا أشكالًا أخرى، وقد تكون هذه الأشكال منبثقة عن تلك المذكورة أعلاه أو تكون مصممة خصيصًا لتتلاءم مع قطاعات محددة، إلّا أنني قد اخترت الثلاثة السابقة لمناسبتها لسياق هذا النقاش.
بعض الخصائص التي تجمع ما بين هذه الأعمال:
- النمو بالغ السرعة في القيمة الإجمالية للبضائع من الشائع أن تشهد القيمة الإجمالية للبضائع في بعض الشركات نموًا لتصل إلى ما بين 100 مليون دولار و250 مليون دولار في فترة زمنية قصيرة لا تتجاوز 18 شهرًا إلى 24 شهرًا.
- انخفاض نسبة العمولة التي تبلغ حوالي 5% أو أقل. بعبارةٍ أخرى، بعبارةٍ أخرى، تعتبر نسبة الربح إلى القيمة الإجمالية للبضائع متدنيًا إلى حدٍ ما. وبطبيعة الحال، يتم احتساب نسبة القيمة الإجمالية للبضائع إلى صافي الإيرادات إلى إجمالي الربح بطريقةٍ مختلفة (حسب الشركة). ولكن، عادةً ما يكون الهامش منخفضًا جدًا، أقل من 2% عند حساب نسبة القيمة الإجمالية للبضائع إلى إجمالي الربح (هوامش المنتجات على وجه التحديد)، ويكون أقل من 0% وفي السالب في مرحلة التأسيس وحتى السلسلة (ب).
- السلع الاستهلاكية الأساسية سريعة التداول: عند اختيار تشكيلة المنتجات المعروضة/وحدات إدارة المخزون، تميل هذه المنصات إلى عرض السلع الأساسية التي تمتاز بارتفاع معدلات استهلاكها وتدني معوقات دخول السوق بالنسبة للشركات المنتجة لها (مثل الطحين والأرز والسكر وغيرها)، مما يؤدي إلى النمو في القيمة الإجمالية للبضائع على حساب الهوامش.
ارتفاع استهلاك النقد: (بمعدلاتٍ تفوق قيمة الإيرادات بأضعاف في البداية) نظرًا لانخفاض الهوامش وصعوبة بناء أنظمة الخدمات اللوجستية وخدمات إتمام التعاملات والمنتجات التقنية.
- التركيز على بناء نماذج أعمال إضافية أو منتجات جديدة (غالبًا ما تكون مرتبطة بالتقنيات المالية) ذات معدل تحول إلى أرباح أو هامش ربحي أعلى لتعزيز الإيرادات، على سبيل المثال؛ بمجرد بناء شبكة من متاجر السوبر ماركت، لا بد من التركيز على توفير حلٍ ائتماني لمتاجر السوبر ماركت، نظرًا لأنّ أسواق التعاملات بين الشركات تكون على اطلاعٍ كاملٍ على المخزون وحركة البضائع أو التمويل بضمان المخزون. ومن الأمثلة الأخرى على ما سبق، توفير أداةٍ برمجية لإدارة المخزون كخدمة إضافية مقابل رسوم. وفي هذا السياق، تجدر الإشارة إلى أمرٍ آخر وهو أنّ العديد من الشركات العاملة في هذا المجال كانت توجّه جهودها كافة نحو تحقيق نمو في أرباحها، وكان تركيزها على نسبة العمولة/الهامش الربحي محدودًا جدًا. خلاصة القول، يمكن أن تحقق نماذج الأعمال الإضافية المذكورة أعلاه الإيرادات والأرباح.
الآراء المؤيدة والمعارضة
الآراء المؤيدة
- نماذج الأعمال كبيرة الحجم ومرتفعة الزخم، ذلك أنّ هذا النوع من نماذج الأعمال قادرٌ على النمو بسرعة مذهلة.
- من الناحية النظرية، يسهم هذا النوع من نماذج الأعمال في حل جانبٍ واحدٍ من المشكلة عبر منح الباعة الصغار طريقة أفضل لإدارة سلسلة التوريد والمخزون مع الموردين.
- نظرًا لحجمها الكبير وقدرتها -نظريًا- على بناء أعمالٍ إضافية، ترتفع إمكانية دخولها إلى هذه الشريحة الاقتصادية التي تعاني من نقصٍ في الخدمات ولا ترتبط رقميًا بالمورّدين بما يجعل وجودها على الشبكة يكاد يكون معدومًا (الخدمات المالية للمنشآت الصغيرة والمتوسطة غير القادرة على الوصول إلى الخدمات والتسهيلات المصرفية).
الآراء المعارضة:
• عادةً ما يكون هامش الربح الإجمالي أو هامش المنتج منخفضًا جدًا، حيث يكون أقل من 2%خلال السنوات الأولى وعلى العروض/الخدمات الأساسية.
• ترتبط هذه النماذج في العادة بالخدمات اللوجيستية وخدمات إتمام التعاملات، ما يجعلها تنطوي على تعقيداتٍ تشغيلية؛ فالعديد منها لا تمتلك أساطيل خاصة بها ولا تتعامل مع مزودي خدماتٍ لوجستية خارجيين، ولكنها تديرها أو تستأجرها على نحوٍ فعال. وعلى الرغم من أنّ ذلك ينطوي على نفقاتٍ رأسمالية أقل أو أخف، فإنه يتضمن مزيدًا من التعقيدات التشغيلية لا سيما عند التوصيل إلى عددٍ كبير من المتاجر الصغيرة الموزعة في مناطق مختلفة (التوصيل حتى الميل الأخير).
• عرض القيمة المميزة ضعيف (أضعف)
• ارتفاع المتطلبات النقدية/التمويلية
• قصص نجاح عالمية محدودة
• قد يقود هذا النوع من نماذج الأعمال الإضافية - من الناحية النظرية - إلى تحقيق إيرداتٍ وأرباحٍ، إلّا أنّه يتطلب رأس مالٍ كبير (يتطلب إقراض المشترين على هذه المنصات مبالغ ضخمة من رأس المال).
الخلاصة
في نهاية المطاف، خلُصنا إلى استبعاد هذا القطاع، إلا أنّ ذلك قادنا إلى توسيع نطاق الحوار بشأن الهوامش، وتأمل الأفكار التي يمكن استخلاصها من الصلة ما بين هيكل الهوامش لدى إحدى الشركات وعلاقتها بعملائها أو أصحاب المصلحة لديها.
بالنسبة لنا، يعد هامش المنتج أولى مستويات مجموعة الهوامش، ونعتقد أنه يمثل دليلًا على قوة عرض القيمة المميزة الذي يقدمه المنتج ذاته أو الخدمة ذاتها للعملاء وأصحاب المصلحة الرئيسيين. ولكن، ما معنى ذلك بالنسبة لأسواق التعاملات بين الشركات؟
• انخفاض نسبة العمولة/الهامش الربحي: مما يدل على أنّ القيمة بحد ذاتها أقل بالنسبة لأصحاب المصلحة، ذلك أنّ نسبة العمولة تأتي بشكلٍ أساسي من الموردين ومنتجي السلع الاستهلاكية سريعة التداول. وبالنسبة لهذه الأسواق، يتمثل عرض القيمة المميزة في التخلص من عبء الوصول إلى المتاجر الصغيرة الموزعة في أمكان مختلفة، ولكنّ ذلك لا يضيف قيمة كافية بالنسبة لها ولا يدفعها إلى دفع أموالٍ كثيرة لأنها تمتلك شبكة توزيعٍ بالفعل. ويبقى السؤال، هل تعمل أسواق التعاملات بين الشركات على إحداث ابتكار فعلي في هذا النموذج، أم أنّها تدعم الموردين وتوفر لهم قسطًا صغيرًا من الراحة فحسب؟
• يقتصر الدفع على أحد أطراف السوق دون الآخر: ما يصعب عملية استخلاص الهوامش من التعاملات مع الباعة. أي أنّ استخلاص الهوامش الربحية المتعلقة بالخدمات الأساسية من الباعة يكون صعبًا على أسواق التعاملات بين الشركات. نعلم أنّ امتلاك هذا النوع من الخدمات جميلٌ ومريح. ولكن، هل يعد قيمةً كافية يدفع مقابلها مبالغ كبيرة؟
• المرونة العالية تجاه نسبة العمولة: هناك علاقة أسية عكسية بين معدل الهامش/نسبة العمولة والقيمة الإجمالية للبضائع. ويشير ذلك أيضًا إلى أنّ المورّدين يتأثرون كثيرًا بالزيادات الإضافية في الهامش (هذا هو الحال في بعض الأمثلة التي رأيناها ولكن ليس جميعها)، مما يعني أنّ ارتفاع نسبة العمولة يجعل المورّدين أقل رغبة في التعامل عبر المنصة.
عنصر يجب أخذه بالحسبان بالنسبة للمؤسسين:
ينبغي للمؤسسين العاملين في هذا المجال والذين يبحثون عن سوقٍ مناسبةٍ لمنتجاتهم مراعاة ما يلي: تعد نسبة العمولة/الهامش الربحي دليلًا على قيمة عرضك/خدمتك. إذا كنت تبيع منتجًا ما، فإن مقدار الهامش الذي يمكن استخلاصه يعد مؤشرًا جيدًا للقيمة التي يتمتع بها المنتج/الخدمة بالنسبة للطرف الذي يتم تقديم المنتج/الخدمة له.
ملاحظة أخيرة حول دور رؤوس الأموال الجريئة:
خلال الفترة ما بين 2020 و2022، أعتقد أن الكثير من أصحاب رؤوس الأموال الجريئة عززوا نمو نهج القيمة الإجمالية للبضائع على حساب العوامل الأخرى، فقد دفعوا شركاتهم إلى مضاعفة مبيعاتهم الإجمالية لزيادة تقييمها إلى أقصى حد وذلك نظرًا لأن اعتماد سياسة انعدام الفائدة إلى جانب الاهتمام المفرط بالتقنية خلال جائحة كورونا جعل الأسواق تركز على المبيعات الإجمالية وتغض الطرف عن عوامل أساسية أخرى مثل القيمة الإجمالية للبضائع/هامش الربح. نصيحة للمؤسسين، لا تستمعوا دائمًا إلى رأس المال الجريء خاصتكم ولا تفكروا دائمًا في الجولة التالية (على الرغم من أهميتها إلا أنها ليست أهم شيء). ركزوا دائمًا على بناء أعمال متميزة ذات قيمة جوهرية واضحة، ويمكن إظهار هذه القيمة من خلال نسبة العمولة/الهامش الربحي أو عبر مقاييس أخرى - ولكن نمو القيمة الإجمالية للبضائع مع هامش ربحي سلبي يعد مقياسًا سيئًا للاستمرارية على المدى الطويل ومؤشر سلبي بشكل عام.